فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تنبيهات مهمة:

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} الآية.

.قال القرطبي:

فإن قيل: فإذا لم يكن آدم أفضل من الملائكة، فما الحكمة في الأمر بالسجود له؟
الجواب: قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم، وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره، ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم.
وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه، ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمرهم بالسجود له تكريمًا.
ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم، وكان على قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} لما قال لهم {إني جاعل في الأرض خليفة} وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا فقال لهم {إني خالق بشرًا من طين} [ص: 71]، وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، والمعنى ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. اهـ.

.وقفة مع القرطبي:

.هل الأنبياء أفضل أو الملائكة؟

هذه مسألة تندرج تحت قول الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر}.
وقد قال الإمام- رحمه الله- ما نصه:
فقد استدل ابن عباس على فضل البشر، بأن الله تعالى أقسم بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر: 72] وأمنه من العذاب بقوله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2] وقال للملائكة {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم} [الأنبياء: 29] قيل: إنما لم يقسم بحياة الملائكة، كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل لعمري، وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدل على أنها أرفع قدرًا من العرش والجنان السبع، وأقسم بالتين والزيتون، وأما قوله سبحانه: {ومن يقل منهم إني إله من دونه} فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر: 65].
فليس فيه إذًا دلالة- والله أعلم- انتهى كلامه.

.تعليق:

من خلال هذه الأجوبة يتبين أن الإمام القرطبي يميل إلى أن الملائكة أفضل من البشر، ولكن يؤخذ عليه أنه قد بالغ في الرد، وكان بوسعه أن يرد هذه الأدلة من دون أن يصطدم مع أصول وثوابت أجمعت عليها الأمة سلفًا وخلفًا، سنة وشيعة- وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقات العلوية والسفلية وقد أعطاه الله تعالى هبات ومزايا ما نالها غيره حيث جعل الله طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة لله وبيعته بيعة لله ورضاه في رضا الله فقال تعالى: {من يطع الرسول فقد اطاع الله} [النساء: 8] وقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 1] وقال: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة: 62] وقال له في أحد القبلة {فلنولينك قبلة ترضاها} [البقرة: 144] ولم يقل نرضاها وقال له {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] وتأمل يرحمك الله- عندما تكلم القرآن عن جبريل عليه السلام- وهو أفضل الملائكة بالإجماع- اقسم الله تعالى بهذه الأشياء فقال: {فلا اقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم} والمراد به هنا جبريل عليه السلام- وانظر- أكرمك الله ومتعك بتذوق آياته وآلائه عندما أراد القرآن أن يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- افتراء المشركين في قولهم عنه إنه ساحر أو كاهن، وانظر بأي شيء أقسم رب العزة لتبرئة حبيبه ومصفاه قال: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم} والمراد بالرسول الكريم هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال سادتنا المفسرون في هذه الآية الكريمة لقد أقسم الله تعالى بكل شيء بالليل والنهار بالدنيا والآخرة بالملك والملكوت بالخلق والخالق لتبرئة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأيضا لا ينبغي لعاقل أن ينسى ما حدث ليلة الإسراء والمعراج وخصوصًا عند سدرة المنتهى وإلى أي مكان وصل الحبيب الشفيع صلى الله عليه وسلم يتبين لك ما خص الله به حبيبه ومحتباه بأبي وأمي هو صلى الله عليه وسلم.
واستمع إلى ما ذكره الإمام القيم ابن القيم رحمه الله حيث ذكره فائدة في غاية الحسن في كتابه النفيس بدائع الفوائد- فقال:

.فائدة: هل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أم الكعبة؟

قال ابن عقيل: سألني سائل: أيهما أفضل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم أو الكعبة، فقلت: إن أردت مجرد الحجرة، فالكعبة أفضل، وإن أردت وهو فيها، فلا والله، ولا العرش وحملته، ولا جنة عدن، ولا الأفلاك الدائرة، لأن بالحجرة جسدًا لو وزن بالكونين لرجح. اهـ.
وقد ذكر الإمام فخر الدين الرازي- رحمه الله- أن جبريل- عليه السلام- أخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أركبه على البراق ليلة المعراج، وكذلك لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل عليه السلام وقال: «لو دنوت أنملة لأحترقت». اهـ.
وهذا الخبر يحتاج إلى سند صحيح. ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم فوق تصورنا فماذا يقال بعد أن خاطبه الله في القرآن بصيغة التعظيم في أكثر من موضع، ليس هذا مجال ذكرها. وكان بوسع الإمام القرطبي أن يرد هذه الأدلة بأن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه لا يفهم من هذا الكلام أننا نقول بأن الملائكة أفضل من الأنبياء أو من البشر فهذا أمر علمه عند ربي والله أعلم.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {اسجدوا لآدم} قال: كانت السجدة لآدم، والطاعة لله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: أمرهم أن يسجدوا فسجدوا له كرامة من الله أكرم بها آدم.
وأخرج ابن عساكر عن أبي إبراهيم المزني أنه سئل عن سجود الملائكة لآدم فقال: إن الله جعل آدم كالكعبة.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي قال: كان سجود الملائكة لآدم إيماء.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ضمرة قال: سمعت من يذكر أن أول الملائكة خرَّ ساجدًا لله حين أمرت الملائكة بالسجود لآدم اسرافيل، فأثابه الله بذلك أن كتب القرآن في حبهته.
وأخرج ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز قال: لما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم كان أول من سجد له إسرافيل، فأثابه الله أن كتب القرآن في جبهته.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} قال: كانت السجدة لآدم، والطاعة لله، وحسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناريٌّ وهذا طينيٌّ. فكان بدء الذنوب الكبر. استكبر عدوّ الله أن يسجد لآدم.
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشرف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن عباس قال: إنما سُمي إبليس لأن الله أبلسه من الخير كله، آيسه منه.
وأخرج ابن إسحاق في المبتدأ وابن جرير وابن الأنباري عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا، وأكثرهم علمًا. فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يُسمون جنا.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: كان اسم إبليس الحرث.
وأخرج وكيع وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدبر أمر السماء الدنيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان إبليس من أشرف الملائكة من أكبرهم قبيلة، وكان من خازن الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وسلطان الأرض. فرأى أن لذلك له عظمة وسلطانًا على أهل السموات، فاضمر في قلبه من ذلك كبرًا لم يعلمه إلا الله، فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم خرج كبره الذي كان يسر.
وأخرج ابن جرير وابن الأنباري عن ابن عباس قال: إن الله خلق خلقًا فقال: {اسجدوا لآدم} فقالوا: لا نفعل فبعث نارًا فأحرقهم، ثم خلق هؤلاء فقال: {اسجدوا لآدم} فقالوا: نعم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: لما خلق الله الملائكة قال: {إني خالق بشرًا من طين} [ص: 71] فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فقالوا: لا نفعل. فارسل عليهم نارًا فأحرقتهم. وخلق ملائكة أخرى فقال: {إني خالق بشرًا من طين} فإذا أنا خلقته فاسجدوا له. فأبوا فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة أخرى فقال: {إني خالق بشرًا من طين} فإذا أنا خلقته فاسجدوا له. فقالوا: سمعنا وأطعنا إلا إبليس كان من الكافرين الأولين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عامر المكي قال: خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق البهائم من ماء، وخلق آدم من طين، فجعل الطاعة في الملائكة، وجعل المعصية في الجن والإِنس.
وأخرج محمد بن نصر عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أمر آدم بالسجود فسجد فقال: لك الجنة ولمن سجد من ذريتك، وأمر إبليس بالسجود فأبى أن يسجد فقال: لك النار ولمن أبى من ولدك أن يسجد».
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان عن ابن عمر قال: لقي إبليس موسى فقال: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلمك تكلمًا إذ تبت؟ وأنا أريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أن يتوب عليّ قال موسى: نعم. فدعا موسى ربه فقيل «يا موسى قد قضيت حاجتك» فلقي موسى إبليس قال: قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك. فاستكبر وغضب وقال: لم أسجد له حيًّا أسجد له ميتًا؟ ثم قال إبليس: يا موسى إن لك عليّ حقًا بما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن. اذكرني حين تغضب فإني أجري منك مجرى الدم، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف. فاذكره ولده وزجته حتى يولي، وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها ورسولك إليها.
وأخرج ابن المنذر عن أنس قال: إن نوحًا لما ركب السفينة أتاه إبليس فقال له نوح: من أنت؟ قال: أنا إبليس قال: فما جاء بك؟ قال: جئت تسأل لي ربي هل لي من توبة؟ فأوحى الله إليه: أن توبته أن يأتي قبر آدم فيسجد له قال: أما أنا لم أسجد له حيًا أسجد له ميتًا؟ قال: فاستكبر وكان من الكافرين.
وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن جنادة بن أبي أمية قال: كان أول خطيئة كانت الحسد. حسد إبليس آدم أن يسجد له حين أمر، فحمله الحسد على المعصية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة، وعمل بعمل الملائكة، فصيره إلى ما بدئ إليه خلقه من الكفر قال الله: {وكان من الكافرين}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وكان من الكافرين} قال: جعله الله كافرًا لا يستطيع أن يؤمن. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
العامل في {إذ} محذوف دلّ عليه قوله: {فَسَجَدُوا} تقديره: أطاعوا وانقادوا، فسجدوا؛ لأن السجود ناشئ عن الانقياد.
وقيل: العامل اذكر مقدرًا.
وقيل: زائدة وقد تقدّم ضعف هذين القولين.
وقال ابن عطية: {وإذ قلنا} معطوف على {إذ} المتقدمة، ولا يصحّ هذا لاختلاف الوقتين.
وقيل: {إذ} بدل من {إذ} الأولى، ولا يصحّ لما تقدّم، ولتوسّط حرف العَطْف، وجملة {قلنا} في محل خَفْضٍ بالظرف، ومنه التفات من الغيبة إلى التكلُّم للعظمة، واللام للتَّبليغ كنظائرها.
والشمهور جَرّ تاء الملائكة بالحَرْف، وقرأ أبو جعفر بالضم إتباعًا لضمة الجيم ولم يعتد بالسَّاكن، وغلّطه الزَّجاج وخطأه الفارسي، وشبهه بعضهم بقوله تعالى: {وَقَالَتِ اخرج} [يوسف: 31] بضم تاء التأنيث، وليس بصحيح، لأن تلك حركة التقاء الساكنين، وهذه حركة إعراب، فلا يتلاعب بها، والمقصود هناك يحصل بأي حركة كانت.
وقال الزمخشري: لا يجوز استهلاك الحركة استهلاك الإعرابية إلاّ في لغة ضعيفة كقراءة: {الحمد للَّهِ} [الفاتحة: 2] يعني بكسر الدال.
قال الشيخ شهاب الدين: وهذا أكثر شذوذًا، وأضعف من ذاك مع ما في ذاك من الضَّعف المتقدم؛ لأن- هناك- فاصلًا، وإن كان ساكنًا.
وقال أبو البقاء: وهي قراءة ضعيفة جدًّا، وأحسن ما تحمل عليه أن يكون الرَّاوي لم يضبط عن القارئ أشار إلَى الضَّم تنبيهًا على أنّ الهمزة المحذوفة مضمومةٌ في الابتداء، فلم يدرك الراوي هذه الإشارة، وقيل: إنه نَوَى الوَقْفَ على التاء ساكنة، ثم حركها بالضم إتباعًا لحركة الجيم، وهذا من إجراء الوصل مجرى الوَقْفِ.
ومثله ما روي عن امرأة رأت رجلًا مع نساء، فقالت: أفي السَّوتَنْتُنَّهْ- نوت الوقف على سوءة، فسكنت التاء، ثم ألقت عليها حركة همزة أنتن فعلى هذا تكون هذه حركة السَّاكنين، وحينئذ تكون كقوله قَالَتُ: أخْرُجْ وبابه، وإنما أكثر الناس توجيه هذه القراءة لجلالة قارئها أبي جعفر يزيد بن القَعْقَاع شيخ نافع شيخ أهل المدينة وترجمتها مشهورة.
و{اسجدوا} في محل نصب بالقول، واللام في {لآدم} الظَّاهر أنها متعلّقة ب {اسجدوا} ومعناها التعليل، أي: لأجله.
وقيل: بمعنى إلى أي: إلى جهته له جعله قبلة لهم، والسجود لله.
وقيل: بمعنى مع، لأنه كان إمامهم كذا نقل.
وقيل: اللاَّم للبيان فتتعلّق بمحذوف، ولا حاجة إلى ذلك.
و{فسجدوا} الفاء للتعقيب، والتقدير: فسجدوا له، فحذف الجار للعلم به، والسُّجود لغة: التذلَّل والخضوع، وغايته وضع الجَبْهَةِ على الأرض، وقال ابن السكيت: هو الميل، قال زيد الخيل: الطويل:
بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ ** تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ

يريد: أن الحوافر تطأ الأرض، فجعل بأثر الأُكْمِ للحوافر سجودًا؛ وقال آخر: المتقارب:
....... ** سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِهَا

وفرق بعضهم بين سجد، وأسجد فسجد: وضع جبهته، وأسجد: أَمَال رأسه وَطَأْطَأْ؛ قال الشاعر: المتقارب:
فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسَجَدَتْ ** سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِها

وقال آخر: الطويل:
وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا

يعني أن البعير طَأْطَأَ رأسَه لأجلها.
ودَرَاهِمُ الأسجاد: دَرَاهِمُ عليها صُوَرٌ كانوا يسجدون لها، قال: الكامل:
....... ** وَافَى بِهَا كَدَرَاهِمِ الأَسْجَادِ

قوله: {إلاَّ إِبْلِيسَ} {إِلاَّ} حرف استثناء، و{إبليس} نصب على الاستثناء، وهل نصبه ب {إلا} وحدها أو بالفعل وحده أو به بوساطة {إلاّ} أو بفعل محذوف أو بأن أقوال؟
وهل هو استثناء متّصل أو منقطع؟ خلاف مشهور.
والأصح أنه متّصل- وأما قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50]، فلا يرد؛ لأن الملائكة قد يسمونه جنًّا لاجْتِنَابِهِمْ، قال الشاعر في سليمان: الطويل:
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً ** قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ

وقال تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158] يعني: الملائكة.
واعلم أن المستثنى على أربعة أقسام:
قسم واجب النّصْب، وقسم واجب الجَرّ، وقسم جائز فيه النصب والجر، وقسم جائز فيه النَّصْب والبَدَل مِمَّا قبله، والأرجح البدل.
الأول: المُسْتَثْنَى من الموجب والمقدّم، والمكرر والمنقطع عند الحجاز مطلقًا، والواقع بعد لا يَكُون وليس وما خَلاَ وما عَدَا عند غير الجَرْمِيّ؛ نحو: قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْدًا، ومَا قَامَ إلاَّ زَيْدًا القَوْمُ، وما قَامَ أحدٌ إلاّ زَيْدًا إلا عَمْرًا، وقاموا إلاّ حِمَارًا وقَامُوا لا يكونُ زيدًا ومَا خضلاَ ويدًا ومَا عَدَا زيدًا.
الثاني: المستثنى بغَيْر وسِوًى وسُوًى وسَوَاء.
الثالث: المستثنى بعَدَا وحَاشَا وخَلاَ.
الرابع: المستثنى من غير الموجب؛ نحو: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [النساء: 66].
و{إبليس} اختلف فيه، فقيل: إنه اسم أعجمي منح من الصّرف للعلمية والعُجْمة، وهذا هو الصّحيح، قاله الزَّجاج وغيره؛ وقيل: أنه مشتقٌّ من الإبْلاَس وهو اليأس من رحمة الله- تعالى- والبعدُ عنها؛ قال: السريع أو الرجز:.
............ ** وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإِبْلاَسْ

ووزنه عند هؤلاء: إِفْعِيل؛ واعترض عليهم بأنه كان ينبغي أن يكون منصرفًا، وأجابوا بأنه أِبه الأسماء الأعجميّة لعدم نظيره في الأسماء العربية؛ ورد عليهم بأنه مثله في العربية كثير؛ نحو: إزْمِيل وإكْلِيل وإغريض وإخْرِيط.
وقيل: لما لم يقسم به أحدٌ من العرب، صار كأنه دَخِيلٌ في لسانهم، فأشبه الأعجمية، وفيه بُعْدٌ.
قوله تعالى: {أَبَى واسْتَكْبَرَ}.
الظاهر أن هاتين الجملتين استئنافيتان لمن قال: فما فعل؟
والوقف على قوله: {إلاَّ إِبْلِيسَ} تام.
وقال أبو البقاء: في موضع نصب على الحال من إبليس تقديره: ترك السجود كارهًا له ومستكبرًا عنه.
فالوقف عنده على{واستكبر} وجوز في قوله: {وَكَانَ مِنَ الكَافِرينَ} أن يكون مستأنفًا، وأن يكون حالًا أيضًا، والإباء: الامتناع؛ قال الشاعر: الوافر:
وَإِمَّا أنْ يَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا ** وَشَرُّ مَوَاطِنِ الحَسَبِ الإبَاءُ

وهو من الأفعال المفيدة للنفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء المفرّغ قال تعالى: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32].
والمشهور أَبِيَ- يَأْبَى بكسرها في الماضي، وفتحها في المضارعن وهذا قياس، فيحتمل أن يكون من قال: أَبَى- يَأْبَى بالفتح فيهما استغنى بمُضَارع من قال أَبِيَ بالكسر ويكون من التداخل نحو: رَكَنَ- يَرْكَنُ وبابه.
واستكبر بمعنى: تَكَبَّرَ، وإنما قدم الإباء عليه، وإن كان متأخرًا عنه في الترتيب؛ لأنه من الأفعال الظَّاهرة؛ بخلاف الاستكبار؛ فإنه من أفعال القلوب.
قوله: {وَكَانَ} بل: هي هنا بمعنى صَارَ؛ كقوله: الطويل:
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كَأَنَّهَا ** قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا

أي: قد صارت.
ورد هذا ابن فورك وقال: تردّه الأصول، والأظهر أنها على بابها والمعنى: كان من القوم الكافرين الَّذين كانوا في الأَرْضِ قبل خَلْقِ آدم على ما روي، وكان في علم الله. اهـ. باختصار.